الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبُّع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم، فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لنا، وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا؛ لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]وما دام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع مَا لا نعلم، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلابد أنْ يسأل المرءُ عن وسائل العلم هذه، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما عَلم الإنسانُ شيئًا، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها؟ هذه الحصيلة هي العلم.وهذه الحواس تُؤدِّي عملها في الإنسان بمجرد أنْ تنشأ فيه، وبعد أنْ يخرجَ إلى الحياة، والبعض يظنّ أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته.ولذلك، فإن علماء وظائف الأعضاء يقولون: إن الطفل يُولَد ولديْه ملكَاتٌ إدراكية سمّاها العلماء احتياطًا الحواس الخمس الظاهرة، وقد كان احتياطهم في محله لأنهم اكتشفوا بعد ذلك حواس أخرى، مثل حاسة العضل مثلًا التي نُميِّز بها بين الخفيف والثقيل.وإنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولًا، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع، أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.الأخرى: أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم، وإلاّ لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف. فقال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا..} [السجدة: 12] والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا..} [السجدة: 12] لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا.فالسمع أوّل الحواس، وهو أهمها في إدراك المعلومات، حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع قبل أن يقرأ، فتعلّم أولًا بالسماع ألف باء، فالسمع أولًا في التعلُّم، ثم يأتي دَوْر البصر.والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، مثل قوله سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ..} [السجدة: 9]إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟وقبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى، وما دام المتكلم هو الله فلابد أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها، بليغة في سياقها.فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعًا، فهو واحد في جميع الآذان.أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئًا، وأنا أرى شيئًا آخر، فَوحْدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع.أما في قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ..} [الإسراء: 36] فقد ورد البصر هنا مفردًا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية، مسئولية كل إنسان عن سَمْعه وبصره، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يُسأل أحد عن أحد، بل يُسأل عن نفسه فحَسْب، فناسب ذلك أنْ يقول: السمع والبصر؛ لأنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره.فالإنسان- إذن- مسئول عن سَمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقِّي، تلقّي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا، وكذلك من حيث الإعطاء، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن: لا تسمعي إلا خيرًا، ولا تتلقيْ إلا طيّبًا، ويا مُربِّي النشء لا تُسْمِعه إلا ما يدعو إلى فضيلة، ولا تعط لأذنه إلا ما يصلح حياته ويُثريها.ويقول للعين: لا ترَىْ إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات، ويا مُربِّي النشء احجب عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته.وما دُمْتَ مسئولًا عن أعضائك هذه المسئولية، ومحاسبًا عنها، فإياك أنْ تقولَ: سمعت وأنت لم تسمع، وإياك أنْ تقولَ: رأيت وأنت لم تَرَ، إياك أنْ تتعرّض لشهادة تُدلي فيها بغير ما تعلم وتتيقن. أو تتبنّى قضية خاطئة وتبني عليها حركة حياتك؛ لأن المبنّي على مقدمات فاسدة ينتج عنه نتائج فاسدة، وما بُنِي على مقدمات صحيحة أنتج النتيجة الصحيحة.وجماع هذا كله في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ..} [الإسراء: 36] لماذا؟ لأنك محاسب على علمك هذا وعلى وسائل إدراكه لديك: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]. اهـ.
وحَسَر عن كذا: كشف عنه، كقوله: قوله: {تأويلًا} منصوب على التفسير. والتأويلُ: المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ، أي: أحسن عاقبةً.{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}.قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ}: العامَّةُ على هذه القراءةِ، أي: لا تَتَّبِعْ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه، قال النابغة: وقال الكميت:
|